أحلام مستغانمي: الشباك الفارغة للحقيقة
صفحة 1 من اصل 1
أحلام مستغانمي: الشباك الفارغة للحقيقة
في القطار السريع الذي كان ينقلني من باريس إلى مدينة كان، تصفحت مجلة مجانيّة تقدُّمها شركة الخطوط الحديدية للنقل هدية إلى ركابها، تتصدّر غلافها مقابلة مع الكاتب الفرنسي مارك جوليفي. المقابلة صفقة إعلانية متبادلة، تعلن فيها المجلة عن آخر مؤلفات الكاتب، ويشهر فيها الكاتب حبّه للقطار السريع، الذي كتب فيه كثيراً من أعماله. حتى إنه عندما سُئل: »لو كان لأحد أبطالك القدرة على تحقيق إحدى أمنياتك، ماذا كنت ستطلب؟«. أجاب: »أن يكون هناك قطار سريع من طابقين، وأن يحمل أحد القطارات اسمي«. على غروره، يبدو لي هذا المطلب مشوقاً، فقد شاهدت طائرة تونسية تحمل اسم »أبو القاسم الشابي« على الرغم من كونه لم يستقل طائرة في حياته. وربما بعد زمن »عربة اسمها الرغبة« (عنوان ذلك الفيلم الشهير) سيأتي زمن قاطرات.. وطائرات اسمها الكتابة.
دوستويفسكي، الذي أجاب من جاء يسأله مرّة: »كيف أستطيع أن أصبح كاتباً يا سيدي؟«. قائلاً: »أن تستقل عربات الدرجة الثالثة في القطار«، كان سيحزن لو هو قرأ اليوم هذه المقابلة، واكتشف أن نصيحته ما عادت صالحة. فحتى قاطرات الدرجة الثالثة نفسها اختفت باختفاء ذلك الفقر المدقع الذي عرفته روسيا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبح في إمكان الكاتب أن يكون كبيراً وهو يستقل القطار السريع، ويجلس على كرسي أنيق ومريح ليكتب روايته مباشرة على الكمبيوتر.
طبعاً هذا الكاتب ليس أنا. فأنا مازلت لا أدري كيف سأتمكن من »تطبيع« علاقتي مع هذا الجهاز. ولا كيف أدخله أو أخرج من متاهته، إضافة إلى كوني مازلت على وفائي للباصات الشعبية، والحافلة الحمراء رقم 17 التي تعود بي من المتحف إلى برمّانا وسط الزحمة، من دون أن يتنبه أحد مسؤولي هذه الشركة لاستثمار اسمي في الإعلان عن باصاته، على الرغم من كون هذه الشركات تعرف عادة من أين تؤكل كتف الراكب. ومن قبلها كتف الوطن.
في محطة القطار في باريس، عبَرني حزن مباغت، تذكرتُ كاتباً روسياً آخر، صنع مجد الرواية، وانتهى قدره في محطة القطار. تخيّلت تولستوي العظيم، بلحيته الطويلة البيضاء، وجسده الذي أنهكه التأمل في مخادعات الحياة، يلفظ أنفاسه على الكرسي المجاور لي. فهكذا مات صاحب رائعة »الحرب والسلام« وهو يحتضر وسط صفير القطارات. وكان قد قصد المحطة منهَكاً ليموت فيها، بعد أن استدعى عشية موته، ابنه »سيرج« ليقول له بصوت منهك: »سيرج.. إنني أحب الحقيقة كثيراً.. أحب الحقيقة«. وكانت تلك كلماته الأخيرة.
ذلك أنه منذ الأزل والكُتّاب يطاردون الحقيقة، مشياً على الأقدام حيناً، وحيناً على ظهر حصان، قبل أن يركبوا السيارات والقطارات والطائرات والبواخر، بحثاً عنها. فالكاتب يسلّم خطاه للمصادفة، مدركاً تماماً، أن »الحقيقة عابرة سبيل لا شيء يستطيع أن يعترض سبيلها«، كما كان يقول إميل زولا.
تلك الحقيقة التي نبلغها غالباً في آخر المطاف، وقد تأخّر الوقت كثيراً. أيعثر الكاتب عليها وهو صاعد.. أو نازل سلّم الحياة، في قاطرات الدرجة الثالثة.. أم في قطار عصري سريع يحمل اسمه، ويجلس فيه في الدرجة الأولى؟
أتراني بلغت الحقيقة أم سرابها، وقد ركبت بعد هذا العمر الطويل معظم وسائل النقل الشعبية منها، والأُخرى التي ما كان حلمي بأن أركبها يوماً، من سيارات فارهة وطائرات خاصة وقصور عائمة دعتني إليها صديقة مولعة بالأدب برفقة كتّاب وأساتذة آخرين. مرّت سنوات على تلك الرحلة التي لم يتوقف فكري أثناءها عن مجادلة دوستويفسكي، الذي كان يعتقد أن وحده الاحتكاك بالبسطاء يغذّي الأدب، بينما أصبحت قناعتي أن لا شيء يضعنا أمام الأسئلة الوجودية الكبرى، كمقاربة عالم مناقض تماماً لعالمنا.
فالكاتب كما المفكر يحتاج، لسبر أغوار النفس البشرية، إلى الاصطدام بما يغذي تأملاته من متناقضات هذه الحياة.
أمام سيارات الفيراري المكشوفة، تذكرت فرنسواز ساغان التي كانت مولعة بقيادة السيارات السريعة، وهي حافية القدمين، ومن دون حزام أمان يقيها الصدمات، وتساءلت: هل الحقيقة توجد بالنسبة إلى الكاتب في المقاعد الآمنة؟ أم في سيارات لا سقف لضوابطها؟
وأمام البحر الذي كانت اليخوت تشقه بغطرسة، تذكرت همنغواي الذي كتب »العجوز والبحر«، واقفاً! وعندما حصلت روايته على جائزة نوبل، أهدى الجائزة إلى أصدقائه الصيادين، فقد كان يدري أن البحارة وحدهم يملكون الحقيقة، لأنهم يذهبون إلى البحر بزوارق متواضعة وشباك فارغة.
دوستويفسكي، الذي أجاب من جاء يسأله مرّة: »كيف أستطيع أن أصبح كاتباً يا سيدي؟«. قائلاً: »أن تستقل عربات الدرجة الثالثة في القطار«، كان سيحزن لو هو قرأ اليوم هذه المقابلة، واكتشف أن نصيحته ما عادت صالحة. فحتى قاطرات الدرجة الثالثة نفسها اختفت باختفاء ذلك الفقر المدقع الذي عرفته روسيا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبح في إمكان الكاتب أن يكون كبيراً وهو يستقل القطار السريع، ويجلس على كرسي أنيق ومريح ليكتب روايته مباشرة على الكمبيوتر.
طبعاً هذا الكاتب ليس أنا. فأنا مازلت لا أدري كيف سأتمكن من »تطبيع« علاقتي مع هذا الجهاز. ولا كيف أدخله أو أخرج من متاهته، إضافة إلى كوني مازلت على وفائي للباصات الشعبية، والحافلة الحمراء رقم 17 التي تعود بي من المتحف إلى برمّانا وسط الزحمة، من دون أن يتنبه أحد مسؤولي هذه الشركة لاستثمار اسمي في الإعلان عن باصاته، على الرغم من كون هذه الشركات تعرف عادة من أين تؤكل كتف الراكب. ومن قبلها كتف الوطن.
في محطة القطار في باريس، عبَرني حزن مباغت، تذكرتُ كاتباً روسياً آخر، صنع مجد الرواية، وانتهى قدره في محطة القطار. تخيّلت تولستوي العظيم، بلحيته الطويلة البيضاء، وجسده الذي أنهكه التأمل في مخادعات الحياة، يلفظ أنفاسه على الكرسي المجاور لي. فهكذا مات صاحب رائعة »الحرب والسلام« وهو يحتضر وسط صفير القطارات. وكان قد قصد المحطة منهَكاً ليموت فيها، بعد أن استدعى عشية موته، ابنه »سيرج« ليقول له بصوت منهك: »سيرج.. إنني أحب الحقيقة كثيراً.. أحب الحقيقة«. وكانت تلك كلماته الأخيرة.
ذلك أنه منذ الأزل والكُتّاب يطاردون الحقيقة، مشياً على الأقدام حيناً، وحيناً على ظهر حصان، قبل أن يركبوا السيارات والقطارات والطائرات والبواخر، بحثاً عنها. فالكاتب يسلّم خطاه للمصادفة، مدركاً تماماً، أن »الحقيقة عابرة سبيل لا شيء يستطيع أن يعترض سبيلها«، كما كان يقول إميل زولا.
تلك الحقيقة التي نبلغها غالباً في آخر المطاف، وقد تأخّر الوقت كثيراً. أيعثر الكاتب عليها وهو صاعد.. أو نازل سلّم الحياة، في قاطرات الدرجة الثالثة.. أم في قطار عصري سريع يحمل اسمه، ويجلس فيه في الدرجة الأولى؟
أتراني بلغت الحقيقة أم سرابها، وقد ركبت بعد هذا العمر الطويل معظم وسائل النقل الشعبية منها، والأُخرى التي ما كان حلمي بأن أركبها يوماً، من سيارات فارهة وطائرات خاصة وقصور عائمة دعتني إليها صديقة مولعة بالأدب برفقة كتّاب وأساتذة آخرين. مرّت سنوات على تلك الرحلة التي لم يتوقف فكري أثناءها عن مجادلة دوستويفسكي، الذي كان يعتقد أن وحده الاحتكاك بالبسطاء يغذّي الأدب، بينما أصبحت قناعتي أن لا شيء يضعنا أمام الأسئلة الوجودية الكبرى، كمقاربة عالم مناقض تماماً لعالمنا.
فالكاتب كما المفكر يحتاج، لسبر أغوار النفس البشرية، إلى الاصطدام بما يغذي تأملاته من متناقضات هذه الحياة.
أمام سيارات الفيراري المكشوفة، تذكرت فرنسواز ساغان التي كانت مولعة بقيادة السيارات السريعة، وهي حافية القدمين، ومن دون حزام أمان يقيها الصدمات، وتساءلت: هل الحقيقة توجد بالنسبة إلى الكاتب في المقاعد الآمنة؟ أم في سيارات لا سقف لضوابطها؟
وأمام البحر الذي كانت اليخوت تشقه بغطرسة، تذكرت همنغواي الذي كتب »العجوز والبحر«، واقفاً! وعندما حصلت روايته على جائزة نوبل، أهدى الجائزة إلى أصدقائه الصيادين، فقد كان يدري أن البحارة وحدهم يملكون الحقيقة، لأنهم يذهبون إلى البحر بزوارق متواضعة وشباك فارغة.
eng-rama- المدير العام
-
عدد الرسائل : 10
العمر : 35
الوظيفة : لاشيء
العمل/الترفيه : طالبة
الدولة : سوريا
تاريخ التسجيل : 23/10/2007
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 3 نوفمبر - 15:51 من طرف د.عبد الله
» أهلا بالأخ ابراهيم
الأربعاء 27 أكتوبر - 15:14 من طرف Gilgamesh
» شوفو شو بيعملو بالليمون والبرتقال !!!
الأحد 5 أكتوبر - 19:47 من طرف sham
» بتمنى...............................
الأحد 5 أكتوبر - 19:36 من طرف sham
» مقهى الأحزان
الخميس 28 أغسطس - 13:25 من طرف ameen
» مقهى الأحزان
الخميس 28 أغسطس - 13:21 من طرف ameen
» رسائل انكليزية
السبت 19 يوليو - 11:50 من طرف sham
» << مسجــــــــــــات في منتهى الروعة >>
السبت 19 يوليو - 11:30 من طرف sham
» الى كاااافة الأعضاء
الأحد 13 أبريل - 18:41 من طرف sham